الدراسة بقلم : ايدار ماكويف
الترجمة الى اللغة العربية : أحمد عزيز بيدانوق
في الحادي والعشرين من أيار من عام 2009 تمر السنة الخامسة والأربعون بعد المائة على ذلك اليوم من عام 1864 الذي أقيم فيه استعراض عسكري في المنطقة المقفرة قوبده (كبادا بالروسية) على شاطئ البحر الأسود(هذه المنطقة حالياً هي سهل كراسنويا قرب سوتشي مصيف للتزلج الجبلي) بمناسبة النصر على دولة الأديغة /تشيركيسيا/ و تهجير شعبها الى الامبراطورية العثمانية.
رعى الاستعراض العسكري الأمير ميخائيل و هو الأخ الشقيق للقيصر الكسندر الثاني.
امتدت حرب روسيا مع تشيركيسيا 101 سنة, من عام 1763 ولغاية 1864, و فقدت الامبراطورية الروسية خلال هذه الحرب أكثر من مليون رجل, و أبادت تشيركيسيا حليفها القديم و الثابت في القفقاس و استبدلتها بمخططات زائلة في منطقة ما وراء القفقاس, هي اخضاع الفرس والهند.
نتيجة هذه الحرب, زالت الدولة القديمة تشيركيسيا عن خارطة العالم, و فقد الشعب الشركسي 90% من أراضيه, و أكثر من 90 % من سكانه جراء تعرضه للابادة الجماعية و تشتته في أرجاء العالم متعرضاً لخسارات مادية و ثقافية لاتعوض.
في وقتنا الحالي يعتبر الشراكسة من اكثر شعوب العالم المشتتة حيث يعيش 93% من الشعب الشركسي خارج حدود وطنه التاريخي.
و قد أقر جميع الباحثين أنه :
لم توجد مقاومة في التاريخ العالمي تماثل المقاومة الشركسية ضد الامبراطورية الروسية
فقد تناوب على عرش الامبراطورية الروسية خمس قياصرة خلال حربها مع تشيركيسيا, في الوقت الذي تمكنت فيه من دحر نابليون و احتلال بولونيا و حامية القرم و دول البلطيق, و ألحقت الهزيمة بالفرس, و هزمت الامام الشيشاني-الداغستاني شامل و أسرته, لكنها لم تتمكن من اخضاع تشيركيسيا الا بطريقة واحدة فقط و هو طرد شعبها.و حسب شهادة الجنرال غولوفين فقد تم صرف سدس ميزانية الامبراطورية الروسية على حرب القفقاس و حارب القسم الأساسي من الجيش الروسي ضد بلاد الأديغة.
أراضي و سكان تشيركيسيا:
احتلت تشيركيسيا القسم الرئيسي من القفقاس- من شواطئ البحر الأسود و بحر آزوف و لغاية سهول داغستان الحالية.
قديماً استوطن شعب تشيركيسيا الشرقية (الكاباردين) على شواطئ بحر قزوين. وكانت تشيركيسيا الشرقية (كاباردا) تحتل مساحة كاباردينا بالقاريا الحالية و مناطق قراشاي تشيركيسك و القسم الجنوبي من منطقة ستافروبل و كل سهول اوسيتيا الحالية و أنغوشيا و الشيشان. و الى يومنا هذا لاتزال هناك الكثير من الأماكن في المناطق المذكورة تحتفظ بأسماء أديغية (مالغوبيك – بسيداخ – أرغون – بيسلان – غوديرميس و غيرها).
وكانت مجتمعات الأبازين والقراشاي و البلقار والأوسيتين و الأنغوش و الشيشان تتبع لكاباردا.
أما تشيركيسيا الغربية فقد كانت تحتل مساحات منطقة كراسنودار الحالية و لاحقاً استوطنت قبائل تترية شمال الكوبان.
كان عدد سكان تشيركيسيا الشرقية (كاباردا) يقدر في ذلك الوقت ب 400-500 ألف نسمة, و عدد سكان تشيركيسيا الغربية 2-4 مليون نسمة حسب مختلف التقديرات.
عاشت تشيركيسيا على امتداد قرن تحت تهديد اعتداءات خارجية, و كان هناك مخرج واحد أمامها من أجل تأمين أمنها و معيشتها- كان عليها أن تتحول الى قومية محاربين.
و لذلك تحولت أنماط الحياة عند الأديغة الى عسكرية بأرفع مستوياتها, اكتسبوا فنون القتال و أوصلوها للكمال سواء ما يخص الخيالة أو المشاة।استمرت الحروب طوال قرن, و لذلك لم تكن الحرب تعتبر حدثاُ خاصاُ في تشيركيسيا حتى لو كانت ضد عدو قوي جداً.
أمنت الهيكلية الداخلية للمجتمع الشركسي استقلالية البلاد, حيث كان لديهم طبقات خاصة –بشّ و وَرق. كان الوَرق يشكلون ثلث السكان تقريباً في كثير من مناطق تشركيسيا مثل كاباردا و بيسلاني و البجدوغ و حاتوقاي, وكانت وظيفتهم الاستثنائية هي الحرب و التحضير للحرب.
و كان لديهم معهد خاص لتحضير المقاتلين و اكسابهم الخبرة القتالية و كان يُسمى ЗЕКІУЭ
و يقوم الوَرق في أوقات السلم بمسيرات طويلة و أعداد تتراوح ما بين عدة أشخاص و قد يصل العدد الى الآلاف.
ونتسائل أي شعب من شعوب العالم وصلت ثقافته الحربية الى ذلك الكمال والغزارة كما لدى الشعب الشركسي !!!
قام الشراكسة الوَرق بغارات أيام تيمورلنك حتى على مدينة سمرقند و بخارى و كانوا يغيرون على جيرانهم و خاصة القرم و حامية استراخان الأثرياء بشكل دائم.
(... كان الشراكسة مولعين بالقيام بالمسير في الشتاء عندما يتجمد النهر كي يسلبوا القرى التترية, و كانت حفنة من الشراكسة تجبر مجموعة كاملة من التتر على الفرار)
كتب الوالي الاستراخاني بيوتر الأول : ( أستطيع أن أثني على شيء واحد في الشراكسة, بأنهم جميعاً محاربين لاتجد مثيلاً لهم في هذه البلاد, فألف تتري أو قوميقي يقابلهم مائتا شركسي فحسب).
كان وجهاء القرم يسعون الى تربية وتنشئة أولادهم في تشيركيسيا و كانوا يعتبرون كل رجل لم يتعلم الأمور والأساليب الحربية في تشيركيسيا شخصاً تافهاً. فكانوا يرسلون أطفال الحامية الذكور الى القفقاس و يعودون منها شباناً الى منازل ذويهم.
يفتخر الشراكسة بنُبل دمائهم, يُظهر لهم الأتراك احترماً شديداً و يسمونهم (الشركسي سباغا) أي الفارس الحربي النبيل.
كان الشراكسة يبتكرون دوماً شيئاً جديداً بأساليبهم و بأسلحتهم, و كانت الشعوب المحيطة بهم تحتذي بهم , بحيث من الممكن تسمية الشراكسة بفرنسيي القفقاس.
كان القيصر الروسي ايفان غروزني خلال بحثه عن حلفاء ضد حامية القرم لا يستطيع الاعتماد سوى على تشيركيسيا, و كذلك كانت تشيركيسيا تبحث عن حليف لها في صراعها مع حامية القرم. وكان عقد المعاهدة الحربية السياسية بين روسيا و تشيركيسيا عام 1557 ناجحاً جداً لكلا الطرفين. وتم تدعيمها عام 1561 بزواج ايفان غروزني من الأميرة الكاباردينية غواشناي (ماريا). و عاش أمراء القباردي في موسكو تحت تسمية الأمراء الشراكسة و كان لهم نفوذ عظيم (سكنوا في بدايات عيشهم في موسكو مقابل الكرملين و هو مايسمى الآن الزقاق الشركسي الكبير والصغير).
و أول من حصل على رتبة جنرال في روسيا هو من أصل شركسي, و تم النظر في مسألة ترشيح أمير شركسي للعرش الروسي أيام (زمن الفتنة). و كان أول قيصر في سلالة رومانوف القيصرية –ميخائيل- تربطه قرابة بالشراكسة. و في الماضي شارك الخيالة الشراكسة في الكثير من الحملات و الحروب الروسية كحليف استراتيجي .
قدمت تشيركيسيا أعداداً كبيرة من المحاربين , ليس فقط في روسيا, فقد كان التحرك الجغرافي الحربي الشركسي واسعاً و يضم بلداناً تمتد من البلطيق الى أفريقيا الشمالية.
و تضم كتب الأدب شروحاً واسعة حول سفرات الشراكسة العسكرية الى بولونيا و روسيا و مصر و تركيا. و كل ماقيل نستطيع تطبيقه على أقرباء الشراكسة و هم الأبخاز.
تمتع الشراكسة في بولونيا و في الامبراطورية العثمانية بنغوذ سلطوي قوي , فقد حكم السلاطين الشراكسة (مصر , فلسطين , سوريا , وقسم من السعودية) حوالي 800عام.
السلوكيات و القوانين الشركسية في قيادة الحروب :
ظهر في تشيركيسيا التي خاضت الحروب على امتداد مائة عام مفهوم (ثقافة الحرب) , فهل من الممكن الجمع بين الحرب و الثقافة؟
الحرب – هي الخلفية الدائمة التي تطور من خلالها الشعب الشركسي , و لكي يظلوا بشراً رغم كثرة الحروب , فقد تمسكوا بقواعد السلوك الشركسي (الورق خابزا) , وكانت هنالك معايير كثيرة تنظم علاقة الناس خلال الحرب , منها :
1-لاتعتبر الغائم غاية بذاتها, بل هي مجرد مؤشر ورمز للبسالة الحربية .كان على الوَرق أن يكون ثرياً مرفهاً ويملك الأدوات الفاخرة باستثناء الأسلحة , ولذلك يجب عليه حسب الوَرق خابزا أن يعطي الغنيمة للغير. و كان الحصول على الغنيمة بغير طريق المعركة أمراً شائناً, ولذلك كان الخيالة يبحثون دائماً عن الصدامات الحربية.
2- كان من غير المسموح به اطلاقاً أثناء الحرب حرق المساكن أو الزرع و خصوصا الخبز حتى لو كان للأعداء. يصف بيستوجيف مارلينسكي الذي حارب في القفقاس هجوم القباردينيين:
(كانت الغنائم والكثير من الأسرى و الأسيرات مكافأة شجاعتهم, كانوا يقتحمون المنازل و ياخذوا الأكثر قيمة ومايقع تحت أيديهم على عجل , لكنهم لم يحرقوا المنازل و لم يدوسوا الحقول عمداً, ولم يكسروا كروم العنب , كانوا يقولون لماذا نلمس عمل الله و تعب الانسان؟)
ان قوانين الشراكسة الجبليين لم تكن تترافق بارتكاب الفظائع أياً كان نوعها – يمتلكون الشجاعة و البسالة التي كانت فخراً لأكثر الشعوب ثقافة لو كانت بحوزتهم. أما أفعال الجيش الروسي خلال الحرب الشركسية الروسية 1763-1864 فلا يمكن وصفها لهذا المفهوم عن الحرب . ولكن الشراكسة حاولوا أن يكونوا مخلصين لمفاهيمهم حتى لو ادى ذلك الى خسارة ذاتية.
كتب دروزدوف و هو شاهد عيان و شارك في الحرب على القفقاس حول ذلك قائلاً:
( ان النمط الفروسي لادارة الحرب و المواجهات المفتوحة الدائمة و التجمع بأعداد كبيرة – قد سرع بانهاء الحرب ).
3- ابقاء جثث الرفاق المتوفين على أرض المعركة كان يعتبر أمراً غير مسموح به .كتي لونغفورت حول ذلك : ( لا أظن أن هنالك صفة تستحق الاعجاب عند الشراكسة أكثر من اهتمامهم بقتلاهم – اهتمامهم بجثامين موتاهم التعساء, عندما يسقط أحد زملائهم على أرض المعركة يتراكض الكثير من الشراكسة الى ذلك المكان لكي يسحبوا جثته, و ينتج عن ذلك معارك يخوضوها ببطولة و تجر وراءها في كثير من الأحيان نتائج مهولة ..)
4- كان الوقوع حياً في الأسر بيد الأعداء يعتبر عاراً كبيراً بالنسبة للشراكسة. و قال الضباط الروس الذين حاربوا في تشيركيسيا أنهم لم يتمكنوا من أسر شركسي الا ما ندر. و عندما تحاصر القرى كانوا غالباً يفضلون الموت على الأسر حتى النساء منهم. و المثال التاريخي لذلك هو اجتياح قرية خودز من قبل مقاتلي القيصر , فقد كانت النساء يقتلن أنفسهن بالمقص لكي لا يقعن بأيدي الأعداء. يقول ايوغان فون بلارامبيرغ : (عندما يرون بأنهم محاصرون, فانهم يضحون بحياتهم بسخاء, ولا يستسلمون أبداً) .
كتب قائد الخط القفقاسي الجنرال ك.ف.ستال: (ان الوقوع كأسير حرب يعتبر مذلة كبرى, ولذلك لم يحدث أبداً أن يقع محارب مسلح في الأسر, فعندما يفقد حصانه, كان يقاتل بضراوة شديدة لكي يجبرهم في النهاية على قتله).
و من شهادة الضابط الروسي تورناو: (عندما كانوا يرون أن كل طرق النجاة قد أغلقت في وجوههم, كانوا يقتلون أحصنتهم, ويكمنون خلف جثثها يصوبون البندقية و يطلقون النار حتى انتهاء الذخيرة, و باطلاقهم آخر طلقة كانوا يكسرون البندقية و السيف و يقابلون الموت بخنجر في يدهم وهم متاكدين تماماً بأنه لا يمكن أسرهم احياء وبحوزتهم هذا السلاح).
التكتيك الحربي الشركسي :
قدم العالم الأوكراني ف.غاتسوك المختص بشؤون القفقاس في بدايات القرن العشرين وصفاً دقيقاً حول حرب الشراكسة في سبيل الاستقلال قائلاً :
(دافعوا عن وطنهم و حريتهم بنجاح و لسنين طويلة, كثيراً ما كانوا يرسلون وحداتهم الشبه عسكرية و خيّالتهم لمساعدة شامل في الداغستان, لكن قواتهم كُسرت أمام التفوق العددي الهائل للمحاربين الروس).
لقد وصلت الثقافة الحربية الشركسية الى مستوى متطور جداً . و لكي يحقق الجيش الروسي نتائج ناجحة في حربه مع الأديغة, اضطر الى أن يقتبس كل أدواتهم – من التسليح (السيوف والسهام الشركسية و الخناجر و السروج الشركسية و الأحصنة الشركسية) و أشكال لباسهم (التشركيسكا و البوركا و الباباخا /قبعة الفرو/ بيوت الفشك وغيرها) وصولاً الى ادارة المعركة.
وكان لابد لهم من اقتباس كل نظام التحضير للحرب في تشيركيسيا لكي يجاروا قوة الفرسان الشراكسة النوعية, وكان هذا مستحيلاً. كتب الجنرال ي.د.بوبكو:
(منذ المواجهة الأولى كان على الخيالة القوزاق أن يتنازلوا أمام الخيالة الشراكسة, و من ثم لم يتفوقوا عليهم أبداً, ولم يتمكنوا حتى من مجاراتهم).
وهناك الكثير من مذكرات شهود العيان حول الحرب مع الشراكسة ..
(كان الفارس الشركسي ينقض على أعدائه و السوط في يده, وعندما يصل الى مسافة 20 خطوة عنه كان يسحب بندقيته ويصوب مرة واحدة ثم يرميها خلف ظهره, ويستل سيفه ويوجه ضربة قاصمة و غالباً ماتكون مميتة. و الخطأ من مسافة 20 خطوة لم يكن وارداً).
(كان القوزاق يستلون السيف و يرفعونه عالياً, عبثاً ما كانوا يتعبون أيديهم, ويحرمون انفسهم من امكانية التسديد بالبندقية, بينما المهاجم الشركسي يحمل بيده سوطاً فقط , يقود به الفرس).
(يقفز المحارب الشركسي من سرجه الى الأرض, يقذف بخنجره الى صدر فرس عدوه, و يقفز مجددا الى صهوة حصانه, و يقف مستقيماً و يضرب عدوه .. كل ذلك بينما فرسه يتابع جريه).
وبهدف تفريق صفوف العدو, كان الشراكسة يبدؤون بالتراجع فينشغل العدو بمطاردتهم مما يؤدي الى تشويش صفوفه, فينقض عليهم الشراكسة بالسيوف.
وسمي هذا الاسلوب ب (ШуКІапсэ) . و كانت هذه الهجمات المعاكسة تتميز باندفاع وضغط شديدين مما يؤدي الى تشتيت العدو والتغلب عليه خلال دقائق قليلة , حسب شهادة سبنسر.
و كما كانت هذه الهجمات المعاكسة خاطفة ومفاجئة, كذلك كان الانسحاب. كتب سبينسر :
( تتميز طريقة قتالهم بأنهم يختفون في الغابات كالبرق بعد هجومهم العنيف )
و كانت مطاردتهم في الغابات أمراً لاجدوى منه, فحالما يستدير العدو الى الجهة التي تم اطلاق النار الكثيف منها أو حصلت منها الغارة, كانوا يختفون و يبدؤون اطلاق النار من جهة أخرى. يقول أحد الضباط الروس :
( في تلك البقاع, تندلع المعركة على السهول, و تنتهي في الغابة أو في الوديان الضيقة . أما العدو الذي نحاربه فانه عندما يرغب بالقتال لا يمكن الصمود أمامه, و ان لم يرغب, فلا يمكن اللحاق به واداركه ).
كان الشراكسة يهجمون على العدو مطلقين أسماءاً قتالية مستعارة : يَوّ Еуэ و مارج марж.
كتب المتطوع البولوني تيوفيل لابينسكي :
(حدثنا الكثير من الضباط الروس الذين شابوا مع الجبليين في الحرب, بأن تلك الصرخة المهولة التي يتكرر صداها آلاف المرات في الغابات والجبال, قريباً و بعيداً عنهم , من الأمام و من الخلف , من اليمين ومن اليسار , تتغلغل الى لب العظام , و تُحدث انطباعاً عند الجندي أكثر فزعاً من أزيز الرصاص).
وصف الشاعر ميخائيل ليرمونتوف الذي حارب في القفقاس هذا التكتيك بشكل موجز وواف في شعره حين قال :
الشراكسة لا يدعوننا نرتاح
يختفون أحياناً, و مجدداً ينقضون
هم كالظل
كرؤية الدخان
بعيدون وقريبون في نفس الوقت
كيف تسمى الحرب؟ القفقاسية, أم الروسية القفقاسية, أم الروسية الشركسية؟؟؟
في التاريخ الروسي تسمى الحرب التي خاضتها روسيا في القفقاس في القرن التاسع عشر بالحرب القفقاسية. من الطريف أن المدة الزمنية المذكورة لهذه الحرب تمتد من عام 1817حتى عام 1864.
يا للغرابة ! أين اختفت الفترة من عام 1763 ولغاية 1817؟؟!! خلال هذه الفترة تحديداً تم اخضاع القسم الشرقي من تشيركيسيا - كاباردا.
و السؤال هو كيف سمى المؤرخون الروس هذه الحرب ؟؟ وكيف يقدرون ترتيبها الزمني ؟؟
هذا شأن العلوم التاريخية الروسية, فهي تستطيع تسميتها بالحرب القفقاسية و تقدر مدتها حسب أهوائها !!
نوه الكثير من المؤرخين بشكل دقيق بأن تسمية الحرب ب (القفقاسية) غير مفهوم اطلاقاً, فمن الذي حارب من؟ هل هي حرب شعوب القفقاس بين بعضها , أم ماذا ؟
ولذلك فقد اقترح بعض العلماء مصطلح الحرب (الروسية – القفقاسية) عوضاً عن ( القفقاسية) للأعوام من 1763-1864 . هذا أفضل قليلاً, و لكنه خاطئ كذلك , للأسباب التالية:
أولاً- لأن تشيركيسيا و الشيشان و داغستان الجبلية هم فقط من بين شعوب القفقاس الذين حاربوا ضد الامبريالية الروسية في هذه الحرب.
ثانياً- ان مصطلح (الروسية) يدل على القومية, بينما مصطلح (القفقاسية) هو مصطلح جغرافي. فاذا استخدمنا مصطلح الحرب (الروسية – القفقاسية) فهذا يعني بأن الروس قد حاربوا التضاريس القفقاسية, و هذا غير مقبول.
على المؤرخين الشراكسة كتابة التاريخ من وجهة نظر الشعب الشركسي, و كتابته بأي شكل آخر هو أمر مخالف لاعتباره تاريخا قومياً .
بدأت روسيا أعمالها الحربية ضد الشراكسة (الأديغة) عام 1763, و ذلك ببنائها قلعة مزدوك في مركز الكاباردا, و انتهت الحرب في 21 أيار 1864. و هذا لايوجد فيه أي لَبْس, و لذلك يجب تسمية حرب روسيا مع الشراكسة بالحرب (الروسية – الشركسية) و مدتها الزمنية تمتد من عام 1763 حتى عام 1864.
ولكن يقول قائل ألا تتجاهل تسمية الحرب بهذا الشكل , الشيشان و الداغستان؟
أولاً- ان تشيركيسيا و امامة الشيشان و الداغستان لم يحاربوا تحت جبهة واحدة ضد التوسع الامبريالي الروسي .
ثانياً- لقد قادت الامامة الشيشانية- الداغستانية القتال تحت شعارات دينية, بينما تشيركيسيا-التي لم تتصف أبداً بالتعصب الديني- قاومت من أجل الاستقلال القومي .
كتب الجنرال ر.فادييف عن الشراكسة قائلاً:
(لم يكن للدعايةالمريدية تأثير كبير على الناس الذين ظلوا حتى وقتنا هذا مسلمين بالاسم فقط).
ثالثاً- لم تحصل تشيركيسيا على أي دعم محدد من قبل الامامة الشيشانية-الداغستانية. وهكذا, فان ما جمع الشراكسة مع الامامة الشيشانية – الداغستانية في تلك الحرب هو القرب الجغرافي فقط.
أما محاولة مجيء شامل الى كاباردا فقد اتُخذت بعد عدة سنوات و ذلك بعد اخضاع كاباردا.
فقد أثر تقلص تعداد الكاباردين من 500 ألف شخص الى 35 ألف شخص على الحرب, و جعل استمرار المقاومة شبه مستحيل.
كثيراً مانسمع بأن وجود عدو مشترك قد ساهم في توحيد تشيركيسيا مع امامة الشيشان-الداغستان.ولكن هناك الكثير من الأطراف التي حاربتها الامبراطورية الروسية بالتزامن مع الحرب ضد تشيركيسيا, منهم: فرنسا , بولونيا, حامية القرم, تركيا(4مرات), ايران, الامامة الشيشانية الداغستانية.فهل ندخلهم كلهم في تسمية الحرب ؟؟؟؟
ان تسمية الحرب الروسية الشركسية لاتحتم شمل الامامة الشيشانية الداغستانية أو المناطق الأخرى ضمنها. ان الحرب الروسية الشركسية تسمى حرب الامبريالية الروسية ضد تشيركيسيا.
يطلق الشراكسة(الأديغة) على هذه الحرب تسمية (ورس- أديغة زاوا)
Урыс-Адыгэ зауэ
وهي تعني حرفياً (الحرب الروسية- الأديغية). و على شعبنا أن يسميها تماماً بهذه التسمية .
لقد خاض الشراكسة الحرب مستقلين عن الجميع و خاضت دولة الأديغة الحرب دون أن تحصل على أية مساعدة من أي دولة في العالم .
و بالعكس فان روسيا , و تركيا(حليف الشراكسة) قد وقعتا عدة معاهدات بينهما, و استغلوا روح الاسلام عند الشعب الشركسي للوصول الى الطريقة الوحيدة لاحتلال بلادنا- وهي طرد شعبها منها ....
لقد بدأت الحرب القفقاسية في تشيركيسيا و انتهت في تشيركيسيا .
بداية الحرب :
ما هو سبب بداية الحرب بين الحلفاء القدماء روسيا و تشيركيسيا؟؟؟
وصل التوسع الاقليمي للامبراطورية الروسية في منتصف القرن الثامن عشر الى القفقاس. وتفاقم الوضع نتيجة الانضمام الطوعي الى روسيا لأراضي ما رواء القفقاس الضعيفة (جورجيا) أي مملكة كارتلي-كاخيتي, ايميرات و غيرها . فغدا القفقاس حاجزاً بين روسيا و ممتلكاتها فيما وراء القفقاس.
و في النصف الثاني من القرن الثامن عشر لجأت الامبراطورية الروسية الى تفعيل الأعمال الحربية من أجل احتلال القفقاس. وهذا ما جعل الحرب حتمية مع البلد الأكبر في القفقاس –تشيركيسيا.
لقد كانت تشيركيسيا ولسنوات طويلة الحليف المخلص لروسيا, ولكنها لم تتنازل عن استقلالها لأحد.وهكذا فرض على تشيركيسا الصدام مع الامبراطوية الأقوى في العالم.
نبذة مختصرة حول اخضاع تشيركيسيا الشرقية- كاباردا :
قرر الحكم الاستبدادي الروسي اخضاع القفقاس ابتداءاً من منطقة تشيركيسيا الشرقية-كاباردا والتي كانت تشغل مساحات واسعة في ذلك الوقت و تمر من خلالها طرقاً مهمة الى ما وراء القفقاس. و عدا عن ذلك فقد كان تأثير القباردي على بقية شعوب القفقاس عظيماً. فقد كان الأبازين و القاراشاي و البلقارين و الاوسيتيين و الانغوش و الشيشان تابعين ثقافياً وسياسياً لأمراء القبردي.
كتب الرائد ف.د.بوبكا الذي خدم في القفقاس قائلاً :
(ان الشيشان القروية اتبعت قواعد وسلوك الكاباردي الفروسية قدر استطاعتها).
وجاء في كلام المؤرخ الروسي ف.أ.بوتو مؤلف البحث العلمي /الحرب القفقاسية/ مايلي:
(لقد كان تأثير الكاباردا عظيماً, و تمثل ذلك بالاقتداء والتقليد الخانع للشعوب المحيطة بهم في لباسهم و أسلحتهم و طباعهم و عاداتهم . لقد كانت عبارة –هويلبس كالكابارديني- أو –هو يسير كالكابارديني- تطن كمديح هظيم على شفاه الشعوب المجاورة).
و باخضاع القبردي عولت القيادة الروسية على احتلال الطريق الاستراتيجي فيما وراء القفقاس, فقد كان كان وادي داريالسكي تحت أمرة الأمراء القباردينين.
لقد كان اخضاع القبردي –عدا على أنه يسمح بالسيطرة على القفقاس المركزي- يؤدي برأيهم الى التأثير الحتمي على كل شعوب القفقاس و خصوصاً على تشيركيسيا الغربية(مارواء الكوبان).
قُسم القفقاس بعد اخضاع القبردي الى منطقتين منفصلتين- تشيركيسيا الغربية والداغستان.
في عام 1763تم بناء قلعة على الأراضي الكاباردينية في منطقة مازدوك мэздэгу وذلك دون مواقفة القباردي, و أطلق عليها الاسم ذاته مازدوك.
طالب القباردينيون بازالة القلعة, و رفضت روسيا ذلك بشكل قطعي, و عززت قواتها المسلحة في منطقة النزاع.
وَحّد التحدي العدواني السافر من جانب روسيا كل القباردي, و حضر وَرق (نبلاء) تشيركيسيا الغربية للمشاركة في المعارك.
كتب المؤرخ الروسي ف.أ.بوتو قائلاً :
(لقد اصطدم الروس بخصم جدي للغاية, وهم الكاباردينين, وكان لابد من محاسبتهم, لقد كان تأثيرهم على القفقاس هائلاً).
لقد لعب التحالف السابق مع روسيا دوراً ضد القباردي,عاتب الجنرالات الروس الأديغة كونهم يقفون بمواجهة روسيا و يخالفون علاقات التحالف القائم بينهم منذ الأجداد. ورد أمراء القباردي على ذلك :
(اخرجوا من أراضينا, أزيلوا القلعة, أعيدوا العبيد الفارين, أنتم تدركون جيداً بأننا نملك القدرة على أن نكون جيراناً لائقين).
اتبع الجنرالات سياسة الأرض المحروقة, حربوا المزارع, سرقوا الماشية, أحرقوا القرى بالمئات.
وهكذا أشعلت الحكومة القيصرية نضال الطبقات في القباردي. حيث استقبلت الفلاحين الفارين و حضرتهم للوقوف ضد مالكي الأراضي, ناصبة نفسها حامية للطبقات المضطهدة, (بالمقابل لم تفكر بالفلاحين الروس في الامبراطوريةالروسية ذاتها و التي كانت تسمى –درك اوربا- و كان يتزعمها أحد أكثر القياصرة الممقوتين و الوحشيين و هو نيقولاي الأول).
عدا عن ذلك فقد وُعِدَ الشعب المجاور للكاباردي بتخصص الأراضي السهلية له على حساب الكاباردي و بتخليصهم من تبعيتهم للأمراء القباردينين بعد تحقيق النصر عليهم. و نتيجة لذلك فقد تابع الشعب القفقاسي بشغف مسألة اضعاف الكاباردي.
و خلال سير الحرب تم ابادة كل القرى القبادرينية الموجودة في منطقة مينيرالني فودي وبيتيغورسك القفقاسية, و هاجر ما تبقى من سكانها الى مارواء نهر مالكا, و تم انشاء حصون جديدة على تلك الأراضي بما فيها تحصينات قنسطنطين غورسكوي (بيتيغورسك).
وفي عام 1801 تم انشاء قلعة كيسلي فودي (كيسلوفودسك) قاطعة الطريق عن تشيركيسيا الغربية و ذلك في منطقة نارتسان (مشروب النارتيين و يقال لها بالروسية نارزان).
وهكذا تم قطع الكاباردا و بشكل نهائي عن بقية تشيركيسيا .
في بداية القرن التاسع عشر, حل وباء الطاعون في القباردي
(ويسمى بالشركسي يمنه وزемынэуз )
و كان ضربة قاسمة لها, وساعدت مدة الحرب الطويلة على انتشار الوباء, و نتيجة لذلك تقلص عدد سكان القبادري أكثر من عشر مرات من 500ألف شخص الى 35ألف شخص.
وكان ذلك داقعاً للجنرالات الروس لكي يعبّروا بارتياح :
(أن القبادري قد أصبحت الآن منطقة خالية من السكان و ليس بامكانها استخدام سلاحها المرعب على أكمل وجه).
ورغم ذلك فقد استمرت المقاومة و جرت معركة ضخمة على نهر كومبالي (كامبيليفكا-الموجود الآن على أراضي أوسيتيا الشمالية والأنغوش الحالية), و هُزمت القبادري في تلك المعركة .
ويعود المثل القائل (من نجا من الطاعون, أخذه نهر كومبالي ) الى تلك الفترة بالتحديد
«Емынэм къелар Къумбалейм ихьа»
اندفع سكان القبادري الجبليين الى المناطق السهلية, فقد حجزتهم القلاع الروسية عن الجبال التي كانت لهم حصناً على الدوام خلال حروبهم مع الأعداء.و كانت قلعة نالتشيك واحدة من تلك القلاع.
استمرت مقاومة القباردي حتى عام 1827 و ترك الكثير من الامراء والوَرق القباردينين وادي باكسان و عبروا الى تشيركيسيا الغربية عن طريق الألبروس لمواصلة المقاومة, و أسسوا هناك قرى (القباردينين الفارين), و رحل الكثير منهم الى الشيشان, ولا يزال هناك حتى يومنا هذا الكثير من العائلات الشركسية.
وبهذا الشكل تم اخضاع القباردي بشكل نهائي في عام 1827 بعد مقاومة استمرت 64 عاماً, و تقلصت مساحة أراضيها 5 مرات, و تقلص عدد سكانها من 500 ألف الى 35 ألف, و تحققت أحلام الجنرالات- ايصال القباردي الى حالة الشعوب الجبلية الأخرى.
وقامت الشعوب التتارية الجبلية الموجودة في القباردي (حالياً هم البلقار), و كذلك قسماً من الأوسيتين و الأنغوش الذين تحرروا من التبعية القباردينية, بمبايعة روسيا .
وتم ضم القراشاي الى روسيا بعد معركة لم تدم سوى يوماً واحداً في 30 تشرين الأول من عام 1828.
غادر الشيشان والأنغوش الجبال و استوطنوا أراضي كاباردا الصغرى المستسلمة للقدر(وهي حالياً الأراضي المنبسطة في الشيشان والأنغوش الحالية), و أُعطيت السهول القباردينية الى الأوسيتين والقاراشاي والبلقار القادمين من الجبال. ولم يلقَ اخضاع تشيركيسيا الشرقية أية معارضة تذكر من قبل الحكومات الأخرى, التي اعتبرت الكاباردا جزءاً من الامبراطورية الروسية اعتباراً من عام1774. أما أراضي تشيركيسيا الغربية فلم تُعتبر حينها جزءاً من الامبراطورية الروسية.
بداية الحرب في تشيركيسيا الغربية :
في عام 1829 أعلنت الامبراطورية الروسية نفسها مالكاً لتشيركيسيا الغربية أمام المجتمع الدولي بعد استخدامها مكيدة دبلوماسية.
حاولت الامبراطورية العثمانية قبل هذه الأحداث بوقت طويل اخضاع تشيركيسيا, و ضمها اليها. وسعت الى تحقيق ذلك عن طريق حامية القرم و عن طريق محاولة نشر الاسلام في تشيركيسيا.
وقع الصدام الحربي بين الجيش التركي و الشركسي مرة واحدة فقط- وذلك عندما حاول الأتراك انزال قوات برية على الشواطئ الشركسية للبحر الأسود, من أجل بناء حصن تركي هناك. و تم دحر القوات التركية بعد ضربات عنيفة من قبل الفرسان الشراكسة.
اتبعت السلطات العثمانية بعد ذلك طريق المفاوضات, و اتفقت مع أمراء الناتخواي المحليين (المناطق التاريخية الشركسية-حالياً مناطق أنابسك, نوفوروسيسك, كريمسكي, غيليندجيسك, أبينسك التابعة الآن كلها لاقليم كراسنودار), وأنشأ الأتراك حصن أنابا و سوجوك-قاله. و بالطبع لم يصدق الأتراك بوعودهم باتباع الحصن للشراكسة.
تحمل الشراكسة الأتراك على أراضيهم, و لكنهم لم يسمحوا, أو بالأصح حطموا وبدون رحمة كل محاولات الاتراك للتدخل في شؤونهم. و جسد الأتراك أمانيهم على الخرائط حيث رسموا تشيركيسيا ضمن خريطة الامبراطورية العثمانية.
أرضى ذلك روسيا بشكل كامل, و بعد انتصارها مرة اخرى في الحرب الروسية- التركية, وقعت روسيا مع تركيا على صلح اندريانوبولسك و الذي كان من شروطه أن تتنازل تركيا عن تشيركيسيا لروسيا و تعترف بها ك (ممتلكات أبدية للامبراطورية الروسية).
و بذلك فاق الدهاء الموسكوفي كل الديبلوماسية الأوربية, و علق كارل ماركس على ذلك بقوله: (لا تستطيع تركيا أن تتنازل لروسيا عن شيء لاتملكه, ان روسيا تدرك ذلك بشكل كامل, لقد كانت تشيركيسيا على الدوام مستقلة تماماً عن تركيا, و في الوقت الذي كان فيه الباشا التركي موجوداً في أنابا, وقعت روسيا معاهدة حول التجارة الساحلية مع القادة الشراكسة).
تم ارسال وفد من الشراكسة الى اسطنبول من اجل توضيح العلاقة مع تركيا. وعرضت السلطات التركية على الأديغة بأن يعترفوا بتبعيتهم لتركيا و باعتناق الاسلام , فرفض الاديغة ذلك بشكل قطعي.
روسيا التي تحررت من قيودها بالمفهوم العالمي كانت تدرك بشكل تام بأن صلح اندريانوبولسك كان مجرد حروف لا يريد أن يفهمها الشراكسة, وبأن اجبارهم على الخضوع لايتم سوى بالسلاح.
في عام 1830 تم تنشيط الأعمال الحربية ضد تشيركيسيا الغربية(مارواء الكوبان) بشكل حاد. أرسل الأديغة وفداً للمفاوضات الى القيادة الحربية الروسية, و كان الرد بأن السلطان التركي (مالك تشيركيسيا مع سكانها) قد ورّثها لروسيا . و كان رد الشراكسة :
(بأن تركيا لم تحتل أراضينا بقوة السلاح, و لم تشريها بالذهب, فكيف تستطيع أن تهدي شيئاً لاتملكه؟). و عبّر أحد كبار الأديغة عن ذلك بشكل رمزي :
كيف لتركيا أن تهدي تشيركيسيا لروسيا ؟ و أشار للجنرال الروسي على طائر يجلس على الشجرة قائلاً:
(أيها الجنرال ! أنت انسان جيد, أنا أهديك هذا الطائر , هو لك ! ).
جاء في مذكرة اتحاد قبائل تشيركيسيا الغربية المرسلة الى الامبراطور الروسي:
(ان تعدادنا هو 4 ملايين نسمة و و نحن متوحدون من أنابا وصولاً الى القاراشاي, هذه الاراضي تعود لنا لقد ورثناها عن أجدادنا, و حِرْصَنا على ان تبقى تحت سيطرتنا كان سبب العداء الطويل معكم, أنصفونا ولا تدمروا ممتلكاتنا, لا تريقوا دماءنا, انكم تضللون العالم كله بنشركم الأقاويل بأننا شعب متوحش, و تحاربوننا تحت هذه الحجة, مع اننا بشر مثلكم تماماً. لاتحاولوا اراقة دماءنا, لأننا قررنا الدفاع عن بلادنا لآخر قطرة دم ).
اتبع الجنرالات الروس سياسة الأرض المحروقة في تشيركيسيا الغربية كذلك, أبادوا المزروعات, سرقوا المواشي, حكموا على الشعب بالموت جوعاً, أحرقوا القرى بالمئات, أبادوا كل الأشخاص الذين لم يتمكنوا من الاختباء, و أصبحت تلة الجنرال زاس(المؤلفة من الرؤوس البشرية) و التي أقامها من أجل اخافة القرى الشركسية المحيطة معروفة على نطاق واسع. و أثارت أعمال الجنرال زاس استياء القيصر الروسي ذاته, و طبعاَ أدت مثل هذه الأساليب في الحرب الى ضحايا بشرية كثيرة للسكان المسالمين, و لكن القيادة الروسية تكبدت خسائر فادحة في مخططاتها الحربية, كتب أحد الضباط الروس :
(لقد مات مابين 40-50 ألف شخص من أعضاء الحملات التأديبية في تشيركيسيا, لم يلزمنا سوى كتيبتين من أجل اخضاع جورجيا, أما في تشيركيسيا فقد فقدنا جيوشاَ كاملة).
قام الأباطرة الروس مجازر حقيقية في تشيركيسيا, لم تطال الشعب الأديغي فقط بل طالت جيشهم كذلك, كتب الضابط البريطاني جيمس كاميرون عام 1840 وكان شاهداً على الأحداث:
(ان خسائر الجيش الروسي في تشيركيسيا هي لوحات مرعبة للضحايا البشرية)
حصار شاطئ البحر الأسود الشركسي:
من أجل حصار شاطئ البحر الأسود الشركسي الممتد من أنابا الى أدلر أقيم ما يسمى بالجبهة الساحلية للبحر الأسود والمؤلفة من مجموعة كبيرة من الحصون. تصور لوحة ي.ك.ايفازوفسكي (انزال القوات في سوباتشي) قصف سفن اسطول البحر الأسود للشواطئ وعملية انزال القوات البرية عند مصب نهر شاخي في الشابسوغ (وهي حالياً منطقة طوابسه و لازروف في سوتشي) وأقاموا هناك حامية غولوفينسكي نسبة الى الجنرال غولوفين و دخلت هذه التحصينات ضمن الجبهة الساحلية للبحر الأسود التي أنشأت عام 1838 بهدف محاصرة شاطئ البحر الأسود الشركسي. دمر الشراكسة مراراً حصون تلك الجبهة, ففي 19 شباط 1840 احتل الشراكسة حصن لازوروفسك و دمروه, في 12 آذار- حصن فيليامينوفسك (تسميتها الشركسية طوابسة), في 2 نيسان- حصن ميخائيلوفسك, 17 نيسان- حصن نيكولايفسك, 6 أيار- حصن نافاغينسك (التسمية الشركسية سوتشي).
عندما احتل الشراكسة حصن ميخائيلوفسك فجر أرخيب اوسيبوف مخزن البارود لكي لا يحتله الشراكسة, و تكريماً لهذا العمل استبدلت تسمية حصن ميخائيلوفسك وأصبحت أرخيبو اوسيبوف وهو مصيف مشهور حالياً.
احتجاجاً على الحكم الاستبدادي في تشيركيسيا قدم قائد الجبهة الساحلية للبحر الأسود الجنرال ن.ن.رايفسكي (صديق الشاعر بوشكين) استقالته الى وزير الحرب الكونت تشيرنيشيفا قائلاً:
(أنا أول المتمردين على سياسة الأعمال الحربية المهلكة في القفقاس, ولذلك أنا مضطر للرحيل عن هذه الأراضي, ان أعمالنا في القفقاس تذكر بفاجعة احتلال الاسبان لأميركا, ولا أرى هنا أية مآثر بطولية ولا مكاسب للغزو).
القتال في البحر:
لم يكن الصراع العنيف على البر فقط بل في البحر أيضاً, و اشتهر الشراكسة الذين يعيشون على الشواطئ (الناتخواي , الشابسوغ, الأوبيخ) منذ القدم كبحارة ممتازين, يذكر المؤرخ سترابون أن القرصنة الأديغية الأبخازية كانت واسعة المدى في منتصف القرن.
لم تكن سفن الشراكسة كبيرة الحجم كانت خفيفة الحركة و سهلة المناورة وكان من السهل اخفاؤها (هي سفن مسطحة القاع تقاد ب18-24 مجذاف و احياناً يبنون مراكب تتسع ل40-80شخص وتسير بشراع زاوي بالأضافة الى المجاذيف). و أكد شهود العيان خفة حركة هذه السفن وسرعتها الكبيرة و كانت تسلح أحياناً بالمدافع.
استخدم الشراكسة منذ بداية حربهم مع روسيا اسطولهم بشكل فعال جداً, حيث كانت السفن الروسية الضخمة تتأثر بشكل كبير بحركة الرياح ولم تكن سهلة المناورة مما جعلها أهدافاً سهلة للقوارب الشركسية.
كان البحارة الشراكسة بسفنهم الصغيرة والكبيرة يهاجمون السفن الروسية, كانوا يخرجون ليلاً بسفنهم و يجذفون بهدوء نحو سفن الأعداء, في البداية كانوا يقتلون الأشخاص المتواجدين على سطح السفينة ببنادقهم, ثم يهجمون بسيوفهم و خناجرهم و ينهون الأمر بفترة وجيزة.
خلال فترة الحرب و الحصار للشاطئ الشركسي كانت وفود الشراكسة تصل بسهولة الى اسطنبول فقد كان هنالك حوالي 800 سفينة تنتقل ذهاباً واياباً بين تشيركيسيا و تركيا باستمرار ولآخر يوم من الحرب رغم كل محاولات الاسطول الروسي للبحر الأسود لمنعهم.
تغير تكتيك الامبراطورية الروسية في حربها مع الشراكسة:
هناك عبارة في الكتاب المرسل من قبل الشراكسة الى السلطان العثماني تشهد على التنظيم والادارة الجيدة للحرب: (منذ سنوات طويلة و نحن نحارب روسيا و هذه ليست بمصيبة كبرى, بل العكس فالحرب تخولنا الحصول على غنائم كبيرة).
كتبت هذه الرسالة في العام 90 للحرب. علينا أن ننوه بأن تعداد الجيش الروسي الذي حارب ضد تشيركيسيا فاق تعداد الجيش الذي حارب ضد نابليون بعدة مرات. وعلى العكس مما حصل في القفقاس الشرقي(الشيشان والداغستان) و التي انتهت فيها الحرب بعد أسر شامل فان الحرب في تشيركيسيا كانت شعبية وشاملة ولم تخضع للحلول الوسط, وقامت تحت شعار الاستقلال القومي, ولم تنفع معها كل محاولات "اصطياد القادة الشراكس".
كتب الجنرال ر.فادييف قائلاً:
(كانت كل الأمور في القفقاس الغربي أي نشيركيسيا مختلفة عما هي في القفقاس الشرقي-الشيشان والداغستان, سواءاً من ناحية اصطياد القادة أو في كل الأمور الأخرى.
فقد تعود الليزغين والشيشان على الخضوع لسلطة شامل, فلم يكن أمام السلطة الروسية سوى أن تقهر الامام شامل و تحل مكانه و بهذا تسيطر على الشعب, أما في القفقاس الغربي فقدكان عليهم التعامل مع كل شخص بشكل مستقل).
و كذلك لم تنفع الأساليب الكلاسيكية لتحطيم الشراكسة عن طريق احتلال عاصمتهم أو التغلب عليهم في بعض المعارك العامة أن تحقق أهدافها. فأقرت القيادة الحربية بأنه من غير الممكن تحقيق النصر على تشيركيسيا بدون تغيير التكتيك الحربي, و لذلك اتخذ القرار بطرد الشراكسة جميعاً من القفقاس وتوطين القوزاق مكانهم, و من أجل تحقيق ذلك تم اقتراح احتلال البلاد بشكل مجزأ و ابادة شعبها و اقامة الحصون والمدن (تلزمهم الأرض أما السكان فلا حاجة لهم اطلاقاً).
يقول الجنرال ر.فادييف حول خطة الابادة الشاملة للشراكسة قائلاً:
(ان الوضع الجغرافي الاستثنائي لبلاد الشراكسة الواقعة على ضفاف البحر الأسود الأوربي يجعلها بتماس مع العالم كله, و هذا لايسمح بأن يقتصر الامر على اخضاع شعبها بالمعنى الاعتيادي لهذه الكلمة, ولذلك لم يكن هنالك من خيار لترسيخ هذه الأرض تشيركيسيا و الحاقها بروسيا سوى جعلها أرضاً روسية بالفعل, و ابادة الجبليين و طردهم جميعاً بدل اخضاعهم).
(كان علينا أن نحول الشاطئ الشرقي من البحر الأسود الى أرض روسية, و لذلك كان لابد من تطهير الشاطئ كله من الجبليين, طرد الجبليين من السهول و توطين الروس في القفقاس الغربي, هكذا كانت خطة الحرب في السنوات الأربعة الأخيرة).
كان الاقتراح الوارد في كل المخططات الروسية هو بعثرة الشراكسة في عمق روسيا أو اخراجهم الى تركيا, نظرياً اقترحوا طردهم من أراضيهم و توطينهم في مناطق المستنقفات في الكوبان, و لكن عملياً لم يكن هنالك خيار سوى التهجير الكامل. كتب الجنرال ر.فادييف:
(كنا نعلم بأن النسور لن تقبل يالذهاب الى قن الدجاج ).
و تواطئت روسيا مع تركيا من أجل ارسال كل الشعب الأديغي الى تركيا . أرسلت تركيا بمبعوثين الى تشيركيسيا و رشت رجال الدين المسلمين لكي يقوموا بالدعاية من أجل الرحيل الى تركيا, قام رجال الدين بوصف روعة الحياة في بلد اسلامي للشراكسة, وأغدق المبعوثون الأتراك بوعود تقول بأن تركيا ستخصص لهم أفضل الأراضي و ستساعدهم فيما بعد على العودة الى القفقاس, و أثناء ذلك سعت تركيا باستخدام الشعب الشركسي المحارب لكي تبقي اليوغسلاف السلافيين و العرب الذين كانوا يجاهدون للانفصال عن الامبراطورية العثمانية تحت تبعيتها. احتل الشراكسة على الدوام مناصب رفيعة في السلطة التركية, و كانت والدة السلطان التركي شركسية, و استخدم كل هذا في هذه الدعاية. و يجد هنا التنويه بأن الشراكسة الذين كانوا يحتلون مناصب هامة في تركيا عارضوا بشدة مثل هذا المخطط, و حاولوا اقناع أبناء قوميتهم بان لا ينجروا وراء هذه الدعاية, فتم اعتقالهم من قبل السلطات التركية و شنق الكثير منهم.
تأجلت مخططات الامبراطورية الروسية بسبب حرب القرم و توتر وضع روسيا دولياً, لم تعترف انكلترة و فرنسا بأحقية روسيا على تشيركيسيا, و تشكلت اللجان الشركسية في الكثير من العواصم الأوربية, وقامت هذه اللجان بالضغط على حكوماتها بهدف مساعدة تشيركيسيا.
أبدى المفكر كارل ماركس اعجابه بنضال الشراكسة قائلا:
(لقد أحرز الشراكسة العنيفين سلسلة انتصارات باهرة مجدداً على الروس, انهم شعب السلام ! تعلموا منهم, تعلموا ما الذي يمكن أن يفعله شعب يرغي أن يبقى حراً).
لم تكن المسألة الشركسية فقط هي سبب توتر علاقات روسيا مع أوربا, فقد بدأت عام 1853 حرب القرم بين روسيا و التحالف الأنغلوفرنسي, و أمام دهشة الجميع قام التحالف بانزال قواته في القرم بدلاً من انزالها على شواطئ البحر الأسود الشركسية, و اعترف الجنرالات الروس فيما بعد بأنه لو انزل التحالف قواته في تشيركيسيا أو لو قدموا المدافع للشراكسة, لكان ذلك أدى الى نتائج مفجعة للامبراطورية الروسية والى ضياع ماوراء القفقاس.
ولكن قيادة التحالف الانكليزي الفرنسي نزلت في القرم, و فوق كل ذلك طلبت من الشراكسة تقديم 20 ألف من الخيالة من أجل حصار سيفاستوبل دون أن تقدم أي وعود بمساعدتهم في حربهم من أجل الاستقلال. ان الاستيلاء على ستيفاستوبل –قاعدة الاسطول (بعد أن أغرق الاسطول الروسي في البحر الأسود) لم يكن له أي تبرير حربي, ان عدم انزال قوات التحالف على الشواطئ الشركسية أفهم الجميع بأن لا ينتظروا أية مساعدات حربية من التحالف.
انتهت حرب القرم بهزيمة روسيا و منعت من امتلاك اسطول لها في البحر الأسود, و فُرِضَ عليها اخراج جيشها من تشيركيسيا, أصرت انكلترة على الاعتراف السريع باستقلال تشيركيسيا, و لكن فرنسا التي كانت تخوض حرباً في الجزائر لم تؤيدها, و هكذا فان انتصار انكلترة و فرنسا على روسيا لم يثمر عن نتائج ملموسة.
عندما شعرت الامبراطوية الروسية بالضعف السياسي لخصومها, قررت أن تنفذ مخططاتها سريعاً, و هي طرد الشعب الشركسي دون أي اعتبارات انسانية أو مادية. ومن المستغرب بأن الامبراطورية البريطانية و رغم أنها منعت روسيا من امتلاك اسطول لها في البحر الأسود و لكنها فجأة سمحت لروسيا باستخدام سفنها من أجل ترحيل الشراكسة الى تركيا.
نستطيع أن نفهم هذا التغير في السياسة البريطانية من خلال صحفها الصادرة في ذلك الوقت, و مما جاء فيها:
(لم يخفِ الأباطرة الروس بأنه بعد السيطرة على القفقاس ستفتح أمامهم آسيا الضعيفة و الغير محصنة, خشيت الامبراطورية البريطانية من أنه بعد احتلال الروس لبلاد الشراكس فانها أي روسيا ستستخدم الشراكسة من أجل احتلال الفرس والهند, و سيكون أقوى شعب محارب في العالم تحت امرة روسيا التي ستحتل بومباي و كالكوتا).
هذه العبارات هي الفكرة الأساسية التي تناولتها الصحف الانكليزية في تلك الأيام.
قررت القيادة الانكليزية أن تسعى بكل الوسائل من أجل تهجير الشراكسة الى تركيا, و سمحت لروسيا أن تستخدم اسطول البحر الأسود متجاوزة المعاهدات السلمية. و هكذا تم التهجير بموافقة كاملة من روسيا و الامبراطورية العثمانية و الانكليزية, و بمؤازرة داخلية من قبل رجال الدين المسلمين بحجة الأعمال الحربية التي لم يسبق لها مثيل ضد الشراكسة.
تهجير الشراكسة:
تم حشد قوات حربية هائلة ضد الشراكسة ....
عام 1861 تم تهجير البيسلاني الى تركيا وتلاهم كباردينيو الكوبان, والكيميرين , و الأبازين.
عام 1862 جاء دور الناتخواي الذين يعيشون في مناطق أنابا و تسيميزا (نوفوروسييك) .
شتاء 1863-1864 تم زج الجيوش ضد الأبزاخ, قاوم الأبزاخ و عشرات الآلاف من اللاجئين الى مناطقهم من المناطق المغلوبة برجولة و ضراوة, و لكن القوى لم تكن متكافئة.
أدى الهجوم شتاءاً الى وقوع عدد كبير من الضحايا بين السكان (كان اتلاف المؤن مهلكاً, فقد هلك الجبليون جوعاً, ووقعوا بضائقة شديدة من شح المواد الغذائية).
(لم يمت أكثر من عُشر الذين سقطوا نتيجة المعارك, أما البقية فقد سقطوا نتيجة الحرمان و الشتاءات القاسية التي أمضوها في الغابات و على المنحدرات الجرداء تحت العواصف الثلجية).
(وقعت أعيننا على مناظر رهيبة في الطريق, جثث مبعثرة لأطفال و نساء وشيوخ, ممزقة أكلت الكلاب أجزاء منها, و نازحين هزلين نتيجة الجوع والأمراض, بالكاد يحركون أقدامهم).
كانت هذه شهادات للضابط الروسي ي.درزدوف من فرقة بشيخسكي.
هاجر الناجون من الأبزاخ الى تركيا, و يتابع الضابط درزدوف في مذكراته:
(كان ربان السفن التركية ولجشعهم يكدسون الشراكسة بالسفن كالبضائع, رغم أن الشراكسة كانوا يستأجرون السفن للوصول الى شواطئ تركيا, كانوا يرمونهم من ظهر السفينة كأية حمولة عند ظهور علائم مرض عليهم, و كانت الأمواج تقذف بجثث هؤلاء المساكين الى شواطئ الأناضول, و بالكاد وصل نصف المهاجرين الى تركيا سالمين, ونادراً ما حصلت كارثة بهذا الحجم في تاريخ البشرية, ولكن لم يكن هنالك طريق للتأثير على هؤلاء المحاربين المتوحشين سوى بتعريضهم للأهوال).
في 28 شباط 1864 عبرت كتيبة داخوفسكي بقيادة الجنرال فونغيمان جبال القفقاس عن طريق مضيق غويتخسك, ووصلت الى البحر الأسود واحتلت الشابسوغ, و بدأت عمليات فرق الحملات التأديبية ضد الشابسوغ و الاوبيخ.
من 7-10 آذار عام 1864 تم ابادة السكان الشراكسة في مناطق سهول البحر الأسود المكتظة بالسكان: ديديرك- شابسي – ماكوبس.
11-12 آذار تم ابادة كل سكان سهول طوابسه وآشي .
13-15 آذار تم ابادة سكان سهول بسيزوابسه مع سكان كل القرى التي صادفتهم في طريقهم.
23-24 آذار تم احراق كل القرى الواقعة على نهر لوو و سكان فارداني .
24 آذار – 15 أيار تم ابادة كل سكان السهول الواقعة على أنهار داغوميس , تساخي , سوتشي , مزيمتا , بزيب.
(اديرت الحرب من الجانبين بقسوة لاشفقة فيها, و لم يوقف الشتاء القارس ولا العواصف التي هبت على شواطئ البحر الأسود الصراع الدموي, لم يمر يوم واحد بدون قتال, كانت معاناة قبائل الأديغة المحاصرين من كل الاتجاهات كبيرة جداً بسبب نقص المؤن و الأغذية والعتاد العسكري, ولكن مقاومتهم أذهلت الجميع, و لم يكن من الممكن تصورها..... فعلى شواطئ البحر الأسود كانت تسيل دماء أحد أكثر شعوب العالم بسالة تحت سيوف المنتصر).
أصبح الدفاع عن الوطن مستحيلاً, و أعداد المهاجرين هائلة, حيث تم تحديد فترة زمنية قصيرة على الشراكسة فيها مغادرة البلاد الى تركيا.
تركوا الممتلكات و المواشي أو باعوها للمحاربين القوزاق بأثمان زهيدة و احتشدت أعداد كبيرة من السكان على امتداد الشاطئ الشركسي للبحر الأسود, و اكتظت الشواطئ بجثث المتوفين مع الأحياء. كانوا يجلسون على الشواطئ باحتياطي مأكولاتهم القليلة, يختبرون كل أنواع الطوارئ, و ينتظرون فرصة الرحيل. كانت القوارب التركية اليومية تكدس الناس, ولم يكن هنالك امكانية سريعة لترحيلهم جميعاً, حتى الامبراطورية الروسية كانت تستأجر لهم القوارب.
(كان الشراكسة يطلقون النار في الهواء من بنادقهم, مودعين الوطن, الذي يضم أضرحة آبائهم أجدادهم, وكان البعض منهم يرمي ببندقيته الغالية على قلبه في عباب الماء بعد اطلاقه آخر طلقة).
مشطت الفصائل المرسلة خصيصاً كل الوديان بحثاً عن الناس الذين حاولوا الاختباء في الأماكن التي يصعب الوصول اليها. من الشابسوغ بقي ألف شخص من أصل 300ألف, و تم تشتيتهم الى أكثر الأماكن المحصنة. الأوبيخ وعددهم 100ألف, تم تهجيرهم بشكل كامل.
الناتوخاي بقي منهم قرية واحدة فقط وهي بسوفوروف تشيركيسي, وحتى هذه القرية الوحيدة تم تهجير سكانها عام 1924 الى الأديغي ذات الحكم الذاتي.
من الأبزاخ الكثيري العدد بقي منهم في القفقاس قرية واحدة فقط هي حاكورنه حابله.
حسب المعطيات الرسمية للسلطة الروسية فقد تم تهجير 418ألف شخص, بالطبع فان هذا الرقم أقل من الواقع بكثير, و محاولة اخفاء حجم الابادة الجماعية واضح من قبل السلطات الروسية. (أصلاً لم يكن لدى روسيا أي دافع لكي تحصي من والى أين ذهبوا في تركيا).
حسب المعطيات التركية(مهاجركوميسيون-اللجنة الخاصة بالهجرة) فان تعداد الشراكسة الذين ظلوا أحياء ووزعوا على ولايات الامبراطورية العثمانية هو 2.8 مليون شخص, منهم 2.6مليون من الأديغة. هذا عدا عن العدد الكبير من الناس الذين توفوا على شواطئ البحر الأسود أو خلال التهجير.
يقول المثل الأديغي في تلك الفترة (ان الطريق الى اسطنبول عبر البحر مملوء بجثث الشراكسة).
وبعد مرور أكثر من 145 عاماً على تلك الأحداث لايأكل الشراكسة الذين يقطنون قرب البحر (الشابسوغ الذين يقوا أحياءاً باعجوبة) من سمك البحر الأسود.
كانت الوفيات كثيرة أيضاً في معسكرات الحجر الصحي للمهاجرين, والتي أقيمت على الشواطئ التركية, كانت هذه كارثة انسانية لم يسبق لها مثيل.
مثلاً وصلت الوفيات الناجمة عن الجوع و المرض في معسكر آجي قاله لوحده 250 شخص يومياً, وكانت هذه المعسكرت كثيرة العدد وموزعة على طول الشاطئ التركي.
لم تستطع السلطات التركية التي لم تتوقع هذا الكم من اللاجئين تأمين الغذاء لجميع المعسكرات, وأحاطتها بوحدات الجيش خوفاً من انتشار الأوبئة.
طلبت تركيا من روسيا ايقاف تدفق اللاجئين ورغم ذلك كانت الأعداد في تزايد. ضحت والدة السلطان ذات الأصل الشركسي بكل مدخراتها الخاصة و نظمت حملة لجمع الأموال من أجل شراء الأغذية للأديغة, ولكن محاولات انقاذ الآلاف الكثيرة من الموت جوعاً لم تثمر (كان الأهل يبيعون أطفالهم للأتراك على أمل أنهم سيشبعون على أقل تقدير).
-قلت له: (ينفطر قلبي مرارة عندما أتذكر الشقاء المذهل لهؤلاء المساكين الذين شهدت كرم ضيافتهم لفترة طويلة, مساكين هؤلاء الشراكسة كم هم تعساء)
- سيكون ثمن الشركسيات رخيصاً هذا العام في البازار- أجابني القرصان السابق بهدوء شديد.
/ مقطع من كتاب المتطوع الفرنسي أ.فونفيل "العام الأخير من حرب الشراكسة في سبيل الاستقلال 1863-1864" /.
في 21 أيار من عام 1864 سقط آخر برج محصن من المقاومة الشركسية- منطقة قوابده Къуэбыдэ والتي تسمى حالياً مصيف التزلج كراسنويا بوليانا قرب سوتشي.
وفي هذه المنطقة أقيم استعراض النصر بانتهاء الحرب القفقاسية و تهجير الشراكسة (الأديغة) الى تركيا بحضور الأمير ميخائيل شقيق القيصر الكسندر الثاني.
فرغت المنطقة الضخمة, و بقي حوالي 60 ألف شخص فقط في القفقاس الغربي عام 1865 من أصل 4 مليون شخص . وتم تشتيت من تبقى منهم في مختلف القرى المحيطة بالمدن القوزاقية.
في عام 1865 بقي مكان الشعب الشركسي الكثير العدد السائد على شعوب القفقاس (جزر أديغية صغيرة اقليمية مشتتة) .
عام 1877 حل نفس المصير بأقرباء تشيركيسيا ( الأبخاز), لم يتجاوز التعداد الكلي للشراكسة في القفقاس بعد الحرب ( بدون القباردي) 60 ألف شخص.
لقد خسر الشراكسة هذه الحرب و كانت نتائجها بمثابة كارثة قومية بالنسبة لهم. لقد فقدوا أكثر من 90 % من السكان و حوالي 90% من أراضيهم.
من يستطيع أن يلوم الشعب الشركسي بأنه لم يدافع عن وطنه من أجل الحفاظ على نفسه, بأنه لم يدافع عن كل شبر من هذه الأرض حتى آخر جندي فيهم ؟؟؟؟
خلال تاريخ تشيركيسيا كله ( الجيش الوحيد الذي استطاع أن يحتل هذه الأراضي بعد تقديمه ثمناً باهظاً من ضحايا هائلة و جهود خارقة .. هو الجيش الروسي, حتى أنه لم يتمكن من تحقيق ذلك سوى بطرد الشعب الشركسي بشكل كامل تقريباً).
أثناء فترة الحرب و بعد انتهائها, الكثير من الروس الذين شاركوا في الحرب قدروا بسالة الأديغة أثناء رحيلهم عن الوطن حق قدرها.
كتب أحد مؤلفي "دراسات حول اخضاع القفقاس" :
(لم نستطع التراجع عن الأمر الذي بدأناه وترك مسألة اخضاع القفقاس لمجرد أن الشراكسة لم يقبلوا بالخضوع... و نستطيع الآن بعد أن سيطرنا على القفقاس أن نقدم و بهدوء كل الاحترام للبطولة و البسالة المتفانية لخصمنا, الذي دافع بكل شرف واخلاص عن وطنه و حريته الى آخر رمق).
وصف الفرنسي فونفيل الذي شهد الأحداث الشركسية المهجرين الى تركيا في كتابه "العام الأخير لحرب الشراكسة 1863-1864" قائلاً:
(لقد أحدثت سيوفهم و خناجرهم و بنادقهم القصيرة ضجة مهيبة ... كان الشعور بأن هذا الشعب الجبار و رغم أنه قد هُزم من قبل الروس, لكنه دافع عن وطنه قدر استطاعته, ولم تكن تنقصه لا الشجاعة و لا القوة, لقد رحل الشراكسة دون أن يركعوا!!!).
ووصف الجنرال ر.فادييف طرد الشعب الشركسي قائلاً:
(لقد امتلأ الشاطئ بالمراكب و السفن البخارية, على طول الشاطئ الممتد400فرستا-مايعادل 1060متراً- كانت تلوح الأشرعة البيضاء, و ترفع الصواري, و ينتشر دخان السفن, كانت الأعلام ترفرف على رأس كل مركز مراقبة تابع لنا, و في الحقيقة كانت هناك جنازات للشعب المندثر, هدأت الحركة عندما فرغ الشاطئ, و لكنه لم يبقى فارغا لفترة طويلة, فمكان القبائل الشركسية قامت قبيلة روسية عظيمة .. و الآن, فان الشاطئ الشرقي للبحر الأسود بجماله الأخاذ قد أصبح جزءاً من روسيا ... قُلِعَت الأعشاب, و سينبت القمح)!!!!!!
و هذه توقعات الجنرال فادييف حول مستقبل الأديغة:
(يكفي أن نستمع الى تقارير القناصلة لكي نعلم كيف يذوب الشراكسة في تركيا, لقد رحل أكثر من نصفهم, ولايوجد بينهم نساء, لن يستمر الشراكسة لأكثر من جيل واحد...).
ولكن الشعب الشركسي لم ينقرض ! لقد استمر, بغض النظر عن كل المصاعب, وسيمضي بثقة في طريق النهضة !!!
و حسب احصاءات العام 2002 فان الشعب الشركسي عاد ولأول مرة بعد الحرب الروسية الشركسية ليصبح الأكثر تعداداً بين شعوب القفقاس, الاحصاء الشركسي يقول :
هناك مابين 5-7 مليون شركسي في المهاجر, يحتفظون يوعيهم القومي .
الدراسة بقلم : ايدار ماكويف
الترجمة الى اللغة العربية : أحمد عزيز بيدانوق
المصادر :
1-س.خوتكو تاريخ تشيركيسيا "مكتبة سانت بيتربورغ" اصدار جامعة سانت بيتربورغ 2002
2-أ.س.مارزييه. الخيالة الشراكسة.نالتشيك الفا2004
3-القفقاس الشمالي في الأدب الأوربي في القرن 13 -18 نالتشيك الفا 2006
4-ت.ف.بولوفينكين "تشيركيسيا ألمي" نبذة تاريخية –التاريخ القديم ولغاية بداية القرن العشرين.مايكوب 2001
5-ت.لابينسكي "جبليو القفقاسو حربهم التحريرية ضد الروس" نالتشيك الفا 1995
6-ن.ف.دوبروفين "حول شعوب مركز وشمال القفقاس" نالتشيك الفا 2002
7-أ.سبينسر "جولة في تشيركيسيا" مايكوب 1995
8-أ.فونفيل "العام الأخير لحرب الشراكسة من أجل الاستقلال" نالتشيك 1991
9-ي.بلارامبيرغ "المخطوطة القفقاسية" دار الطباعة والنشر ستافروبل 1992
10-ر.فادييف "الحرب القفقاسية" 2005
11-ف.أ.بوتو "الحرب القفقاسية" في خمسة أجزاء 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق